مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.
أوشك عام كامل أن ينقضي بعد عملية السابع من أكتوبر 2023 الاستثنائية التي صدمت العالم أجمع دون مبالغة، بعيده قبل قريبه، ومثلت هي وما تلاها من حرب إبادة إسرائيلية انتقامية ضد قطاع غزة بتواطؤ أمريكي وغربي، منعطفاً خطيراً غير مسبوق في تاريخ الصراع الممتد لأكثر من قرن من الزمان ضد الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين.
في جولات الصدام العسكرية العربية-الإسرائيلية السابقة، كان من الملحوظ أن العدو يتجنب قدر استطاعته خوض الحروب الطويلة، نظراً للهشاشة السكانية النسبية التي يعاني منها والتي لا تتناسب مع حجم عدوانيته وتوسعيته، التي تجعل من استدعاء الاحتياطي أمراً بالغ الإرباك للجبهة الداخلية للعدو، لكننا الآن وبعد 11 شهراً من الحرب، نجد قيادة العدو تسعى لإطالة الحرب بكل الطرق، وتتعمد في سبيل ذلك القيام باستفزازات إقليمية سافرة، مثلما حدث نهاية يوليو الماضي باغتيال فؤاد شكر، أعلى قائد عسكري في حزب الله اللبناني، في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، واغتيال أبو العبد إسماعيل هنية رئيس حركة حماس في قلب طهران، في إهانة جسيمة غير مسبوقة لإيران، باغتيال ضيفها في قلب عاصمتها.
في الحروب السابقة التي خاضتها إسرائيل، كانت الخسائر البشرية لجنودها ومستوطنيها لا سيما القتلى والأسرى، تلعب دوراً كبيراً في لجم عدوانها ولو إلى حين، وفي جعلها تخفض أهدافها الضخمة المعلنة في بداية كل حرب.
في حرب تموز 2006 ضد لبنان، كان الهدف المعلن تدمير حزب الله ونزع سلاحه، لكن بعد 33 يوماً، قبلت إسرائيل بوقف إطلاق النار دون تحقيق هذا الهدف، بعد أن تكبدت خسائر أقل من خمس ما وقع لها في حرب غزة الحالية وفقاً للأرقام الرسمية الإسرائيلية، حيث قتل 122 جندياً وضابطاً، و44 مستوطناً.
في حرب 2014 ضد غزة، التي كانت أكبر عدوان ضد غزة منذ الانسحاب أحادي الجانب في 2005 -قبل الحرب الحالية- التي شملت إلى جانب القصف الجوي والمدفعي الوحشي، توغلات برية إسرائيلية في محاور متعددة من القطاع، وكانت الظروف الإقليمية مواتية لإسرائيل بعد انكسار الربيع العربي، توقفت الحرب بعد 51 يوماً فحسب، بعد أن نفذت المقاومة عبر الأنفاق عدة عمليات خلف خطوط العدو مثل عملية موقع ناحال عوز، وعدة كمائن مؤلمة ضد قوات التوغل، لا سيما في أحياء الشجاعية والتفاح في مدينة غزة، ومناطق القرارة وخزاعة في خان يونس... إلخ. قتل فيها بشكل رسمي 64 جندياً وستة مستوطنين بصواريخ المقاومة، وأصيب قرابة الألف بإصابات متنوعة.
أما في الحرب الحالية، ووفقاً لآخر تحديثات أرقام الخسائر الرسمية التي أعلنها الجيش الإسرائيلي أواخر أغسطس 2024، فقد قتل أكثر من 700 جندي وضابط إسرائيلي، نصفهم تقريباً في اجتياح المقاومة لغلاف غزة في الأيام الأولى من «الطوفان»، والنصف الآخر في الاجتياح البري لغزة، وأصيب أكثر من 4200 آخرون، منهم مئات الإصابات الخطرة والإعاقات، ورغم ذلك لم توقف تلك الخسائر المضاعفة حرب الإبادة ضد غزة، بل لم يلتفت العدو لمصرع العشرات من أسراه داخل القطاع في القصف الجوي الوحشي، إن لم يكن يهدف بشكل خفي إلى التخلص من عدد منهم بالقصف، لتخفيف الثمن المفترض دفعه في أي صفقة تبادل مستقبلية.
نحن لسنا الآن كما في الحروب السابقة ضد غزة، في ما يسمى لدى المنظرين العسكريين والاستراتيجيين الإسرائيليين مصطلح «الحملة بين الحروب»، التي تهدف لاستنزاف قدرات الخصم (المقاومة) النوعية، وتدمير قدر كبير من بناه التحتية العسكرية والمدنية، وإلحاق أضرار مؤثرة بالحاضنة الشعبية، تحت سقف معين ترسمه حسابات السياسة والتوازنات الإقليمية، وتحييد عديد من القيادات الميدانية والعليا لإرباك فصائل المقاومة.
يستنزف هذا النمط قدرات المقاومة بشكل دوري، ويشغلها بضع سنوات في إعادة الإعمار، مما يجعلها حرباً وقائية متكاملة منخفضة الشدة والتكاليف، وكلما شعرت إسرائيل باستعادة المقاومة وحاضنتها لبعض العافية، أعادت الكرة، وهكذا... إلخ.
لم تكن إسرائيل تواصل تلك المواجهات بين الحروب إذا زادت خسائرها على الحد المطلوب عسكرياً وسياسياً. في حرب «سيف القدس» في مايو 2021 مثلاً، سارعت إسرائيل وأمريكا بالضغط على مصر لإجبار المقاومة على وقف القتال بعد 11 يوماً فقط، عندما انتهى بنك أهداف الاغتيالات والقصف. وفي المقابل تفاقمت للمرة الأولى المواجهات في كامل فلسطين المحتلة؛ في الضفة الغربية وفي الداخل المحتل للمرة الأولى، وكان الزخم الإعلامي ضد إسرائيل بشكل غير مسبوق، فخشي العدو من الخسارة السياسية لاستمرار الحرب.
لكن ما تلا السابع من أكتوبر 2023، يختلف جذرياً عما سبقه. إذ لم يتصور العقل الأمني والاستراتيجي للعدو أن تُقدِم غزة المحاصرة -أضعف جبهات الخصومة ضده تسليحياً وجيوسياسياً- على اجتياح مئات الكيلومترات من أرض الكيان، وإسقاط جداره الأمني والتكنولوجي الحصين، وإعادة الكيان إلى مربع الفزع الوجودي الذي لم يدفع إليه منذ حرب 1973 عندما هاجمه جيشان عربيان نظاميان، وحتى في 1973، كانت المعركة تدور في الأراضي التي احتلتها إسرائيل خارج فلسطين التاريخية، وليس في عمق الكيان المحتل.
نقلت كتائب القسام في غزة الصراع مع العدو إلى أخطر مستوى، فكان الرد هو توحش إسرائيلي عسكري وسياسي تحت عنوان حرب وجودية، بغطاء سياسي أمريكي وغربي رسمي غير مسبوق، رفع عن صانع القرار الإسرائيلي كل الخطوط الحمراء في عدد وحجم المذابح ومستويات التنكيل بشعب غزة، وكان التهويل الإعلامي في الأيام الأولى حول رؤوس الأطفال المقطوعة ومبالغة إسرائيل في أرقام (المدنيين) القتلى والمصابين، هو التحضير الدعائي والسياسي الكوني لحرب الإبادة ضد غزة.
شبه نتنياهو ومؤيديه من اليمين حرب الانتقام في عام 2023 بحرب 1948، وسموها حرب الاستقلال الثانية. هذا التشبيه الإجرامي في منتهى الذكاء والدلالية. ففي حرب 1948، كان إسرائيل تناضل من أجل وجودها ذاته، وفي سبيل هذا استباحت قتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين وتهجير مئات الآلاف، ومحو مئات البلدات والقرى من الوجود، وحاربت سبع دول -كان جيوشها مهترئة وبعضها لا يزال تحت الاستعمار- والأهم أنها تحملت أكبر خسائر بشرية في تاريخ حروبها؛ حيث خسرت أكثر من ستة آلاف مقاتل ومستوطن في عامي 1948/1949، وهو ما كان يمثل 1% من سكانها آنذاك. باختصار، نتنياهو أراد تهيئة الرأي العام عنده لخسائر تشبه 1948، والتبجح ضد العالم بأن تركيع غزة سيكون مفتوح السقف، تقتيلاً وتدميراً وتجويعاً ومحواً للجغرافيا، وتهجيراً!
لا جدال أن عملية السابع من أكتوبر 2023 كانت عملاً عسكرياً فريداً غير مسبوق في تاريخ الصراع، فنجاح عدة آلاف من المقاومين بأسلحة خفيفة في اجتياح كل مواقع ومستوطنات غلاف غزة الحصينة تكنولوجياً ونارياً في بضع ساعات، وإلحاق خسائر جسيمة بفرقة إسرائيلية كاملة هي فرقة غزة، تضمنت مئات القتلى والأسرى، وآلاف الجرحى، هو لا شك أنجح عمل عسكري فدائي في تاريخ المواجهة.
وفي الحرب البرية التي تلت الطوفان منذ أواخر أكتوبر إلى اليوم، أظهرت المقاومة بكل فصائلها صموداً عسكرياً أسطورياً أمام قوة عسكرية إسرائيلية، وصلت في بعض مراحل الحرب إلى خمس فرق عسكرية كاملة (نفذت إسرائيل عملية الثغرة ضد الجيش المصري في 1973 بفرقتين مدرعتين) رغم انقطاع المدد الخارجي، وتلحق خسائر يومية بالعدو في عمليات نوعية بطولية، فأضاف هذا إعجازاً عسكرياً إلى الإعجاز الأول.
لكن هذا النجاح العسكري التكتيكي الهائل لا يعني بمفرده تحقيق النجاح الاستراتيجي في الحرب ككل، لسبب واضح أنه رغم الضرر الكبير سياسياً وعسكرياً وأمنياً الذي سببه للكيان، فهو لم يضرب مراكز الثقل الاستراتيجية له بشكل يُخرجه من المعركة -وليس هذا أصلاً في طاقة المقاومة بإمكاناتها المحدودة- وحتى على الأقل إيذاءه بشكل جسيم يمنعه من تنفيذ الانتقام الوحشي المتوقع من غزة.
إذا عدنا إلى بيان انطلاق عملية طوفان الأقصى، الذي صدر بصوت قائد أركان كتائب القسام أبو خالد محمد الضيف، بينما كان مقاتلوها يقتحمون غلاف غزة، فقد كان واضحاً يراهن -أو على الأقل يدعو- على أنه على وقع عملية الطوفان، ستحدث هبة شاملة في فلسطين التاريخية في الضفة الغربية والداخل المحتل، وفي الإقليم، انطلاقاً من لبنان والعراق واليمن وسوريا... إلخ. لو حدث هذا، لكان قد وضع إسرائيل في خطر وجودي حقيقي، وشتت طاقتها العسكرية بين مختلف الجبهات، فلا تصبح غزة بمفردها أمام آلة التوحش الصهيونية، لكن للأسف الشديد فشلت كل رهانات المقاومة كلياً أو جزئياً.
الضفة رغم استبسال الأقلية من مقاوميها لا سيما في شمالها، محصورة بين مطرقة الاحتلال وسندان سلطة الخيانة والتنسيق الأمني، والداخل المحتل، ضربه العدو فوراً بيد من حديد حتى جرم النشر على مواقع التواصل، ليمنع سيناريو «سيف القدس» 2021، والحلف الإيراني بكل فصائله باستثناء الحوثيين -استخدموا كافة قدراتهم لكنهم بعيدون جغرافياً وعسكرياً عن تغيير الدفة بشكل فعال- لم يقدم ما بشر به من وحدة حقيقية للساحات، تخفف فيه الجبهات الضغط عن غزة بشكل ملموس، وبدا معظم جهده العسكري رغم الخسائر الفادحة التي تلقاها حزب الله والمستشارون الإيرانيون في سوريا، أقرب لرفع العتب والمشاركة الرمزية. بل رأينا عجز إيران وحزب الله حتى الانتصاف لأنفسهم أمام العدوان الإسرائيلي المباشر، ولجم نتنياهو عن التمادي في الاغتيالات، ورأينا فجر 25 أغسطس 2024 رد حزب الله الباهت على اغتيال قائده العسكري الأكبر فؤاد شكر في قلب الضاحية في وضح النهار.
وهكذا تركت غزة بمفردها لمصير الإبادة وإعادة الهندسة الصهيو-أمريكية، تدفع ثمناً باهظاً نتيجة خلل الحسابات الاستراتيجية لمقاومتها الباسلة، وحلفاء مترددون متهيبون من دفع الثمن في لحظات حاسمة، يكون التردد فيها باهظ التكاليف في الوقت الضائع.
إن مجرم الحرب نتنياهو الذي يصر في كل خطاب له على تأكيد تمسكه بما سماه تحقيق النصر الكامل في غزة، والقضاء التام على حركة حماس وفصائل المقاومة، يعرف جيداً أن القضاء على حركة مقاومة مؤدلجة منبثقة من حاضنة شعبية صلبة، وتمتلك شبكة أنفاق فريدة متعددة الطبقات والقدرات، وبالوسائل العسكرية التقليدية، شبه مستحيل، ولو استمرت الحرب لسنوات طويلة، ولنا -مع الفارق- مثال في نموذج حركة طالبان التي عادت للسلطة في أفغانستان بعد 20 عاماً من الاحتلال الأمريكي.
إن هدف نتنياهو ومجرمي الحرب معه واضح منذ اللحظة الأولى للانتقام عندما بدأ طيرانه بقصف أبراج غزة المأهولة بالمئات من سكانها، وشرع بعد 10 أيام من الحرب في مذبحة المعمداني المروعة بغطاء أمريكي فج، وحاصر شمال قطاع غزة وحاول إفراغه من السكان... إلخ. الهدف هو إلحاق تنكيل هائل بالحاضنة الشعبية للمقاومة في غزة، فالحاضنة الشعبية هي مركز الثقل الأهم لأي تنظيم مقاوم، ليس فقط بقتل وإعاقة أكبر عدد ممكن من أبناء غزة، وإنما بإبادة كافة أسباب الحياة، ومصادر الإنتاج، والسلطات المحلية المدنية الموالية للمقاومة... إلخ، ليصبح الوضع لا يطاق حتى مع توقف الحرب، ويجد عشرات أو مئات الآلاف من أبناء غزة أنفسهم مضطرين للهجرة الطوعية بحثاً عن لقمة العيش وإعادة بناء ما فقدوه، فيتحقق ما صرح به نتنياهو من أنه يهدف إلى (ترقيع) الكتلة السكانية في غزة، لتحجيم المدد السكاني للمقاومة. باختصار تهجير مزمن طوعي/جبري بدلاً من تهجير عنيف حاد يسبب كارثة سياسية واستراتيجية مع مصر.
في المقابل، لا تعاني حالياً الجبهة الداخلية الإسرائيلية من ضغط عسكري وأمني خطير، فوتيرة إطلاق الصواريخ من قطاع غزة صوب التجمعات الحضرية والمستوطنات، أقل بكثير من كل الحروب السابقة ضد غزة، حتى حرب 2008. ولم تنجح المقاومة حتى الآن بتنفيذ عمليات مؤلمة في قلب الكيان. ومنطقة استهدافات حزب الله لم تؤثر حتى الآن سوى على عشرات الآلاف من المستوطنين.
إن الحرب الحالية بشكلها الحالي ما لم يجد جديد، يمكن أن يواصلها العدو لسنوات قادمة دون أن تسبب ضغطاً كارثياً على الجبهة الداخلية للعدو. وكل يوم تفقد غزة ما بقي من فتات أسباب الحياة فيها، وعشرات الشهداء ومئات الجرحى والمرضى.
وما الحل إذاً، هل تستسلم المقاومة كما حدث في بيروت 1982؟
هذا في ما أراه، وبناء على استقراء تاريخ الصراع والوضع الفلسطيني والإقليمي والدولي، سيكون كارثة فادحة، فلا نضمن بتاتاً أن يوقف الدماء، ولن يضمن منع سيناريوهات تهجير غزة والضفة التي يروج لها مئات الآلاف من المستوطنين اليمينيين، الذين أصبح لهم القدح المعلا في النفوذ داخل منظومة الحكم الإسرائيلية، ويؤيدهم عشرات الملايين من اليمين البروتستانتي المتعصب لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية.
في بيروت 1982 كمثال مع الفارق طبعاً، عندما استجاب زعيم الثورة الفلسطينية آنذاك ياسر عرفات للضغط العسكري الإسرائيلي الهائل، وللضغوط الدبلوماسية الأمريكية واللبنانية والعربية، وانسحب بالآلاف من مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت الغربية بعد صمود قرابة 3 أشهر دمر فيها مناطق واسعة منها بالقصف الجوي والمدفعي الإسرائيلي، كانت النتيجة كارثية. فقد انتكس العمل الفدائي الفلسطيني انطلاقاً من لبنان، وحدثت مجزرة صبرا وشاتيلا المروعة بعد أسبوعين فحسب، واغتيل قيادات فتح في منفاها مثل أبو جهاد وأبو إياد وأبو الهول... إلخ، فتغيرت دفة توجهات فتح، ورضيت بكارثة أوسلو بعد 10 أعوام.
في الشهر الأول بعد اندلاع «طوفان الأقصى»، نشر الباحث المصري محمد بريك تحليلاً لتبعات تلك العملية العسكرية غير المسبوقة في تاريخ الصراع، ضمنها ما سماه استراتيجية إسعافية لتقليل الخسائر السياسية والعسكرية لما حدث في السابع من أكتوبر، وتعظيم نتائجه الإيجابية. وقد أثبتت أحداث الشهور الماضية صواب مجمل ما توقعه بريك في ذلك التحليل، ولا تزال عديد من بنود تلك الاستراتيجية الإسعافية صالحة مع بعض التطوير لتقديم مقترحات جادة للخروج من المأزق الخطر الحالي، وسأستلهم منها، ومن قراءات ومتابعات وتحليلات أخرى النقاط التالية:
أتوقع أن تثير كلماتي كثيراً من الحساسية، والاتهامات بالتشاؤم أو التخاذل أو الإرجاف، لكن حسبي أنني أعتبر نفسي غزي الهوى والروح والعقل والقلب منذ طفولتي التي نشأت فيها على بطولات الانتفاضة الثانية ورموزها، وعموماً، فقبل أيام قدم الباحث الفلسطيني والطبيب سعيد الحاج روشتة لطيفة للتمييز بين الناصحين الحريصين على الدم الفلسطيني، وقطعان المزايدين على المقاومة من المتخاذلين والمرجفين والمنافقين والمتصهينين، ويمكن وفقها تصنيف كلماتي مع أي جانب.
إن خسارة المعارك التكتيكية وحتى الاستراتيجية أقل فداحة من خسارة معركة الوعي، لأن تلك الأخيرة معناها تفويت فرصة التعلم من الأخطاء باهظة الثمن، وبالتالي تكرار هزائم مؤلمة لأجيال حالية ولاحقة. والمراجعات الموضوعية الشجاعة التي تتخطى المواقف العاطفية والشحن الحماسي، هي واجبة في كل وقت، وحتى إذا لم تنجح في استدراك وتصحيح مسار المعركة الحالية لا قدر الله، فالمستقبل يحمل مزيداً من محطات النضال الفاصلة.
لقد قدمت غزة شعباً ومقاومة، وبعدها مقاومو الضفة الغربية، وعديداً من المناصرين للمقاومة في اليمن ولبنان وغيرهما، ولا يزالون، أغلى الأثمان وأقساها في تاريخ القضية الفلسطينية بأكمله في المعركة الحالية، ويجب بذل كل جهد فردي -مهما صغر- وجماعي، من أجل ألا تؤول الجولة الحالية إلى هزيمة استراتيجية كارثية للقضية الفلسطينية ومناصريها، ولو أدى هذا إلى دفع مزيد من الأثمان الغالية الآن؛ إذ إن التردد والتقاعس في الأوقات الحاسمة، سيصعب استدراك ما فات لاحقاً ولو بأضعاف الأثمان الحالية.